في حوارة مع فسيفساءمدير قلعة الزبارة السيد: حمد المناعي “الزبارة: إرث يرفض الغياب وتاريخ نابض للأجيال القادمة”

منذ بدايات عملي وأنا أشعر بشغف لا يوصف تجاه التراث القطري. كنت أؤمن أن حفظ الموروث الثقافي والتاريخي ليس ترفًا، بل واجب وطني عميق، وأن الهوية القطرية تستمد قوتها من ماضٍ مجيد علينا أن نصونه بكل فخر. من هنا، جاءت علاقتي بموقع الزبارة الأثري، الذي أعتبره شخصيًا من أصدق الشواهد على عبقرية الإنسان القطري وارتباطه بالأرض والبحر.
تبدأ علاقة دولة قطر بالمتاحف بشكل رسمي مع افتتاح متحف قطر الوطني في عام 1975. لم يكن المتحف مجرد صرح لعرض القطع الأثرية، بل كان أول محاولة علمية شاملة لسرد حكاية البيئة القطرية، برًا وبحرًا، عبر العصور. كان الهدف أن نستقطب الزوار من كل أنحاء العالم، وأن نقدم لهم تجربة ثقافية وعلمية وترفيهية متكاملة. ومن هذا المنطلق، تأسست لاحقًا هيئة متاحف قطر، لكي تنظم عمليات تطوير المتاحف والمواقع الثقافية، وتؤسس لبنية تحتية ثقافية مستدامة وقوية تناسب طموحات قطر الحديثة.
وفي قلب هذه المسيرة، تتألق الزبارة كأكبر موقع أثري في دولة قطر، وأحد أهم رموز تاريخها. كانت الزبارة مدينة ساحلية نابضة بالحياة، مركزًا تجاريًا مزدهرًا لصناعة اللؤلؤ، وملتقى للثقافات العربية والفارسية والهندية. لم تكن الزبارة مجرد تجمع سكاني، بل كانت مشهدًا حضاريًا مكتمل الأركان، وموطنًا لعدد من أبرز الشخصيات الأدبية والتجارية في تاريخ المنطقة.
لهذا كله، سعينا بكل قوة لتسجيل الزبارة على قائمة التراث العالمي لليونسكو. وقد تحقق هذا الحلم في 22 يونيو 2013، بعد سنوات من العمل الدؤوب، حين اعترفت المنظمة الدولية بالقيمة الإنسانية الاستثنائية التي يمثلها الموقع، وبأهميته في توثيق مراحل التطور الاجتماعي والاقتصادي في منطقة الخليج.
قصة الزبارة مع التنقيب والكشف بدأت في وقت مبكر من الثمانينات. كان ذلك قبل إنشاء هيئة متاحف قطر، عندما كانت إدارة الآثار تابعة لوزارة الثقافة والإعلام. قاد المغفور له بإذن الله محمد جاسم الخليفي حملات التنقيب الأولى، وتمكن خلال موسمي 1983 و1984 من الكشف عن معالم رئيسية مثل القصر الشمالي والقصر الجنوبي، مما سلط الضوء على أهمية المدينة.
مع تأسيس متاحف قطر في عام 2005، وضعنا خطة طموحة لإعادة إحياء مدينة الزبارة، وفق رؤية قطر الوطنية 2030. قمنا بأعمال تنقيب وترميم واسعة، شملت السوق والبيوت والمساجد، وسعينا ليس فقط للحفاظ على البقايا الأثرية، بل لإعادة تقديم الموقع بطريقة علمية حديثة تجذب الزوار وتمنحهم تجربة عميقة وحقيقية.
بلغ المشروع ذروته بالتعاون مع جامعة كوبنهاجن بين عامي 2008 و2013، حيث أطلقنا أكبر حملة أثرية في قطر، بمشاركة أكثر من 120 خبيرًا. كانت الأعمال تجري وفق معايير منظمة اليونسكو، وتم توسيع نطاق التنقيب ليشمل مساحات جديدة لم تمس من قبل. لم تكن المهمة سهلة، إذ تطلبت تمديد موسم الحفريات مــن ثلاثة إلى ستة أشهر لضمان تحقيق الأهداف العلمية.
في عام 2009، تم إدراج الموقع مؤقتًا على لائحة التراث العالمي، وفي يونيو 2012 انتقلنا خطوة أخرى نحو الاعتراف الكامل. وأخيرًا، خلال الجلسة السابعة والثلاثين للجنة التراث العالمي في كمبوديا عام 2013، تحقق الحلم، وأصبح للزبارة مكانها الذي تستحقه بين كنوز العالم.
منذ ذلك الوقت، لم يتوقف العمل. نظمت متاحف قطر العديد من الفعاليات، منها استضافة مؤتمر شباب التراث العالمي عام 2014، وتنظيم برامج تدريبية للمتطوعين بالتعاون مع اليونسكو. في 2016، شهدنا مبادرات نوعية لتعزيز مهارات التنقيب والصيانة، واستمر الكشف عن مدابس التمر القديمة، خاصة في منطقة السوق.
وفي عام 2021، عمل فريق محلي على الكشف عن مزيد من مدابس التمر، محاولين فهم التخطيط العام لهذه المنطقة الاقتصادية الحيوية. أما في عام 2023، فقد ركزنا على دراسة تقنيات بناء المدابس، لإعادة بناء نماذج أصلية تعرض في مركز خدمة الزوار، كي نقدم تجربة تفاعلية أصيلة تحاكي الحياة القديمة في الزبارة.
حتى اليوم، لم نكشف سوى عن 5% فقط من إجمالي مساحة الزبارة التي تمتد على 60 هكتارًا. هذا يعني أن هناك المزيد من القصص المدفونة تحت الرمال، تنتظر أن ترى النور، وتحكي لنا تفاصيل إضافية عن حياة شعب قطر في مراحل مفصلية من تاريخه.
التحديات التي نواجهها في إدارة الموقع كبيرة. فالمناخ القاسي، بارتفاع الحرارة والرطوبة، يهدد المباني الأثرية المصنوعة من الطين والحجر الجيري. كما أن البعد النسبي عن الدوحة يجعل من الصعب على بعض الزوار الوصول بسهولة. لكننا تغلبنا على هذه العقبات بفضل التخطيط الذكي، عبر إنشاء مركز حديث للزوار، وتوفير مسارات خشبية تسهّل الجولة بين المعالم.
نسعى باستمرار لتعزيز التعاون مع مختلف الوزارات، ومع المؤسسات الأكاديمية مثل جامعة قطر، لضمان تطوير مستدام للموقع. كذلك كان لشركة قطر للطاقة دور مهم في دعم البرامج البيئية الهادفة لحماية شاطئ الموقع من التلوث.
الزبارة اليوم ليست فقط موقعًا أثريًا، بل مركز ثقافي متكامل. نستضيف الفعاليات الدولية مثل يوم التراث العالمي، وننظم حملات تعليمية ومدارس ميدانية لتعليم الطلبة أساسيات علم الآثار والتراث.
بالنسبة لي شخصيًا، الزبارة تمثل قلب الهوية القطرية. إنها قصة الإنسان القطري الذي عاش بين البحر والرمل، ونجح رغم قسوة الطبيعة في بناء مجتمع مزدهر وحضارة متألقة. أحلم أن تبقى الزبارة حية، تتحدث للأجيال القادمة عن ماضٍ مجيد لا يموت، عن تاريخ لم يُكتب بالحبر فقط، بل بالرمل واللؤلؤ والعرق والإيمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *