
تحولت الدوحة خلال مهرجان قطر الدولي للأغذية إلى لوحة نابضة تجمع ثقافات العالم في مشهد واحد، حيث انتشرت الروائح والنكهات عبر أرجاء المدينة، تحمل معها قصص الشعوب وتقاليدها العريقة. فمنذ انطلاق النسخة الأولى من المهرجان، كان الهدف يتجاوز تقديم أطباق متنوعة، بل كان يسعى إلى بناء جسور ثقافية من خلال المذاق، حيث يجتمع الطهاة من مختلف أنحاء العالم تحت سماء واحدة، ليرسموا فسيفساء جديدة من الفنون والطعام والتلاقي الإنساني.
مع تطور المهرجان على مر السنوات، أصبح واحدًا من أبرز الفعاليات الثقافية في قطر، وأحد أكثرها جذبًا للزوار من جميع الجنسيات، من داخل الدولة وخارجها. وتميزت النسخ الأخيرة من المهرجان بتنوع غير مسبوق، حيث شاركت مطاعم عالمية من أكثر من خمسين دولة، إلى جانب طهاة قطريين شباب قدموا أطباقًا حديثة مستوحاة من المطبخ القطري التقليدي. في كل ركن من أركان المهرجان، كان بالإمكان أن تشاهد طاهٍ هندي يحضّر أطباق الكاري الحارة، بجانب شيف إيطالي يرقص مع عجين البيتزا، بينما في الجهة الأخرى عائلة قطرية تقدم للزوار طبق «مجبوس» تقليدي مع شروحات عن تاريخه وأصوله.
كانت الفعالية أكثر من مجرد احتفال بالطعام؛ فقد شهد المهرجان ورش عمل حيّة تتيح للجمهور تجربة الطهي مع الطهاة، مما وفر فرصة للتعرف العميق على ثقافات الشعوب من خلال مكوناتها وأساليبها الفريدة. فتعلم الأطفال كيفية تحضير الأطباق اليابانية، بينما جلس كبار السن على الطاولات يتذوقون المأكولات المغربية بنكهة الزعفران واللوز. وأقيمت عروض حية أمام الجمهور شارك فيها طهاة مشهورون، بعضهم يحمل نجمة ميشلان، إلى جانب طهاة محليين، حيث كانوا يتبادلون الخبرات ويتشاركون قصصهم الشخصية عن بداياتهم وكيف أصبح الطعام بالنسبة لهم رسالة ثقافية قبل أن يكون مهنة.
من أجمل المشاهد التي التقطتها عدسات المصورين كانت تلك اللحظات التي يتلاقى فيها أشخاص من جنسيات متعددة حول طاولة واحدة، يتبادلون الحديث عن مكونات طبق أو طُرق طهي مختلفة، في انسجام ثقافي يعكس روح الدوحة الحديثة. فلم يكن الزوار يكتفون بتناول الأطعمة، بل كانوا يذهبون في رحلة معرفية عبر تذوق القصص والحكايات التي ترافق كل وصفة، حيث كان الطهاة يشرحون خلفية كل طبق: المناسبة التي يُحضّر فيها، رمزيته الاجتماعية، وعلاقته بتاريخ بلادهم.
احتفى المهرجان هذا العام أيضًا بالمزارعين المحليين، حيث خُصّصت أجنحة تعرض المنتجات القطرية الطازجة من خضروات وفواكه وتوابل. وشكلت هذه المبادرة جزءًا من سعي قطر إلى دعم الإنتاج المحلي وتعزيز العلاقة بين المجتمع والبيئة الطبيعية المحيطة به. وقام العديد من الطهاة بإعداد أطباقهم باستخدام هذه المكونات الطازجة، مما منح الزوار تجربة غذائية متكاملة تحمل روح المكان.
ولم تغب الموسيقى والرقصات التقليدية عن المشهد، فقد صدحت أنغام الطبول الأفريقية بالقرب من جناح الأطعمة الكينية، بينما عزفت فرقة فلبينية ألحانها المرحة بجانب عربات طعام الشارع الآسيوي. وبين العروض، أقيمت جلسات حوارية مع خبراء في ثقافة الطعام ناقشوا موضوعات مثل تأثير الهجرة على تطور المأكولات، وكيف يصبح الطعام جسرًا للتفاهم بين الشعوب.
من اللافت أن المهرجان أتاح للزوار أن يعيشوا تجربة ثقافية كاملة، حيث صممت الأجنحة بشكل يعكس البيئة الأصلية لكل مطبخ. فكان الجناح التركي مثل سوق قديم تفوح منه رائحة القهوة الطازجة والبقلاوة، والجناح المكسيكي بألوانه الزاهية وموسيقاه النابضة، مما جعل التجول في المهرجان أشبه برحلة حول العالم دون مغادرة الدوحة.
التجربة القطرية هنا لم تكن فقط في استضافة الحدث بل في كيفية تنظيمه بروح عصرية تجمع بين الأصالة والحداثة. فرغم الطابع الدولي للمهرجان، إلا أن الهوية القطرية كانت حاضرة بقوة عبر أجنحة المطبخ التقليدي، والضيافة العربية، وزوايا الحرف اليدوية التي تعرض السدو والمنتجات التراثية.
مع اختتام فعاليات مهرجان قطر الدولي للأغذية، ترك الحدث أثرًا عميقًا في نفوس الزوار الذين عادوا إلى بيوتهم محملين بتجارب تذوق جديدة، وحكايات عن لقاءات إنسانية عابرة لكنها تركت بصمة لا تُنسى. وأثبت المهرجان مرة أخرى أن الثقافة يمكن أن تُعبّر عن نفسها بأبسط الطرق: بطبق دافئ، وابتسامة صادقة، وجملة ودودة بلغة ربما لا يتقنها الجميع، لكنها مفهومة عالميًا بفضل سحر الطعام.
وهكذا، تستمر الدوحة في تعزيز مكانتها كعاصمة تجمع بين الثقافات المختلفة، ليس فقط عبر المؤتمرات والمعارض الكبرى، بل أيضًا عبر مهرجانات الحياة اليومية، حيث يصبح الطعام رسالة عالمية عابرة للحدود، وجزءًا من الحكاية القطرية المعاصرة.